الحلقة الاولى

في إحدى ضواحي عمان الراقية، ولدت أمينة داود المفتي عام 1939 لأسرةشركسية مسلمة، هاجرت الى الأردن منذ سنوات طويلة، وتبوأت مراكز سياسية واجتماعيةعالية. فوالدها تاجر مجوهرات ثري، وعمها برتبة لواء في البلاط الملكي. أما أمها،فهي سيدة مثقفة تجيد أربع لغات، وذات علاقات قوية بسيدات المجتمع الراقي. كانتأمينة أصغر أخواتها – شقيقتان متزوجتان وثلاثة أشقاء آخرين – وتحظى بالدلال منذطفولتها، فطلباتها كانت لا ترد أو تؤجل، وضحكاتها المرحة الساحرة كانت وشوشاتالحبور في جنبات البيت الذي يشبه القصر.

وفي المرحلة الثانوية أوغلت فيها مظاهر الأنوثة، فبدت رقيقة الملامح،عذبة، شهية، طموحة، ذكية. لكنها كانت برغم تقاليد أسرتها المحافظة، تسخر من تقاليدالشرق وقيوده، وتحلم بالحب والانطلاق، والحرية.

وفي ثورة تقلباتها أحبت "بسام" الفلسطيني الأصل، وأطلقت تجاههفيضانات المشاعر المتدفقة بلا حدود، أو انقطاع. لكنها صدمت بشدة عندما هجرها الىأخرى أجمل منها، وأكثر اتزاناً، وكتب لها يقول أنها أنانية، مغرورة، سريعة الغضب،شرسة الطباع. هكذا كشف لها الحبيب عن مساوئ تنشئتها، وأسلوبها الخاطئ في فهمالحياة. لأن حبها كان قوياً، جباراً، عاتياً، عصفت بها الصدمة، وزلزلت قلبهاالصغير، وتملكتها رغبة مجنونة في الثأر والانتقام.

وكانت لكل تلك التصارعات آثارها السلبية على دراستها، إذ حصلت علىالثانوية العامة بدرجات متوسطة، دفعتها للتفكير في السفر الى أوروبا للالتحاق بإحدىجامعاتها، وهذا تقليد متبع بين أبناء الأثرياء في الأردن.

وفي عام 1957 التحقت بجامعة فيينا، وأقامت بالمنزل رقم 56 شارع يوهانشتراوس لعدة أسابيع، قبلما يفتح القسم الداخلي أبوابه لإقامة الطالباتالمغتربات.

لقد أسبغت الحياة الجديدة على أمينة سعادة غامرة، ودفئاً من نوع آخروقد جمعتها الحجرة بطالبة مرحة في نهائي الطب – وتدعى جولي باتريك - من جوهانسبرج،ذات خبرة كبيرة بالحياة الاوروبية. وفي متنزهات المدينة الساحرة، والحريةاللانهائية لفتاة من الشرق، علمتها جولي التدخين، وحذرتها من العلاقات الجنسية معالشباب حيث الحمل والاجهاض، وحببت اليها أسلوباً جنسياً خاصاً بالنساء، يرتقىبالمتعة الى ذروة الانتشاء، والأمان، فأقبلت أمينة على التساحق مع الفتاة الخبيرةبالشذوذ، وشيئاً فشيئاً أدمنت الفعل الخبيث حتى الثمالة، فقد رأت فيه انطلاقتهاوتحررها من قيود الشرق، والخجل.

ومع انتهاء العام الدراسي الأول، وعودة جولي الى وطنها، افتقدت أمينةلسعات الخدر الجميل، فتقربت من فتاة أخرى تدعى جينفيف ووترود، وسعت لإدارة الدارلكي تشاركها الحجرة الواحدة، والشذوذ الذي تزداد جرعاته العطشى يوماً بعد يوم.

هكذا مرت سنوات الدراسة بجامعة فيينا، تصطخب بالرغبة والتحرر الى أنتحصل أمينة على بكالوريوس علم النفس الطبي (*) MEDICAL PSYSHOLOGY وتعود في أغسطس 1961 الى عمان مكرهة، تضج بالمعاندة والنفور، وتحمل بداخلها طبائع أخرى، وأحاسيسمختلفة، وآلام الهجرة الى القيود والرقابة.

وفي غمرة معاناتها وكآبتها، تذكرت حبيبها الأول – بسام – فجابت عمانطولاً وعرضاً بحثاً عنه، وهزتها الحقيقة المرة عندما علمت بزواجه من فتاته الجميلةالفقيرة، وحاصرها السهوم والملل والحقد، ولم تجد حلاً لأزمتها إلا السفر ثانية الىالنمسا، بدعوى استكمال دراستها العليا لنيل الدكتوراة، عازمة على ألا تعود الىالشرق أبداً.

آني موشيه

ثلاثة وعشرون عاماً ونيف هو عمر أمينة المفتي عندما عادت الى فيينامن جديد، تحمل قلباً ممزقاً، ووجهاً شاحباً، وكراهية لموروثاتها "العقيمة"، وجسداًأنهكه صمت رجفات النشوة، واصطكاكها.

لفحتها نسمات الحرية في أوروبا، وسلكت مسلك فتياتها في العملوالاعتماد على النفس، غير عابئة بما كان يرسله لها والدها من مصروف شهري. فعملتبروشة صغيرة للعب الأطفال، وساقت اليها الصدفة فتاة يهودية تدعى "سارة بيراد"،شاركتها العمل، والسكن، والشذوذ. فالتصقت بها أمينة، وسرعان ما انخرطت معها في تيارالهيبيز، الذي انتشرت أولى جماعاته في أوروبا في تلك الحقبة، متجاهلة رغبة أسرتهافي تزويجها من ابن العم التاجر الثري. وفي زيارة لأسرة سارة في وستندورف، دق قلبهافجأة بقوة لم تستطع دفعها. إنها المرة الثانية التي يخالجها ذلك الشعور الرائعالمشوق، فقد كان موشيه – شقيق سارة الأكبر – شاب لا يقاوم. إنه ساحر النظراتوالكلام، حيوي الشباب رائق الطلعة.

كانت تعرف أنه طيار عسكري برتبة نقيب، يكبرها بنحو سبع سنواتتقريباً، شاعري، مهووس بموتسارت وبيزيه، ولوع بالشعر الأسود ونجلاوات الشرق.

وفي نزهة خلوية معه حاولت أمينة ألا تنحرف، لكنها ما كانت تتشبث إلابالهواء، واستسلمت لأصابعه تتخلل شعرها، وتتحسس أصابعها المرتعشة، وتضغط ضغطاًملهوفاً على مغاليق قوتها، فتنهار قواها، وترتج في عنف مع مذاقات أول قبلة من رجل،فأحست بروعة المذاق وقالت في نفسها:



يا للغباء لقد خلقنا للرجال.

وبين أحضانه الملتهبة، تأملت جسده العاري المشعر، وأسكرتها دفقاتالمتعة المتلاحقة، وغرقت من لذائذها في نهم وجوع، واشتياق.

حينئذ . . حينئذ فقط . . أفرغت كل مشاعرها بين يديه . وبصدق، وضعف،اعترفت له بحبها.

هكذا خطت أمينة المفتي خطوات الحرام مع الطيار اليهودي . . وهيالمسلمة. وترنحت سكرى بلا وعي لتستقر في الحضيض . ولما أفاقت قليلاً . . هربت منهالى فيينا، يطاردها دنس الجسد، وغباء العقل، ورجفعة الرغبة.

وبمسكنها في شارع شتراوس حاولت أن تنسى، أن تغسل البدن المدنسبالخطايا، أن تمحو صورة أول رجل هتك ستر عفافها وأشعرها بفورة الأنثى، لكن مطارداتهالتليفونية لها كانت تسحق إرادتها، وتشتت عقلها الزائغ أمام جيوش عواطفه، فتخورصاغرة.

تعددت لقاءاتهما المحرمة وتحولت أمينة بين يديه الى امرأة لا تدخروسعاً في إسعاده، وتغلبت على ضميرها قدر استطاعتها وهي تدعي لنفسها الحق في أنتعيش، وتحيا، وتجرب، وتمارس الحب بلا ندم في بلاد لا تعترف بالعذرية والعفاف.

هكذا مرت خمس سنوات في انحلال وترد، متناسية ما لأجله غادرت وطنهاالى فيينا. وبعد جهد . . ساعدها موشيه في الحصول على شهادة دكتوراة مزورة في علمالنفس المرضي – PATHOPYCHOLOGY – وهو فرع من علم النفس الطبي، وعادت أدراجها الىالأردن في سبتمبر 1966 ليستقبلها الأهل في حفاوة وفخر، ويطالبونها بإعلان موافقتهاعلى الزواج من ابن عمها، لكنها تطلب منهم إمهالها حتى تفتتح مستشفاها الخاص فيعمان.

وبينما إجراءات الترخيص للمستشفى تسير بشكلها العادي، وقع خلاف بينهاوبين وكيل الوزارة المختص، فتشكوه الى وزير الصحة الذي أبدى اهتماماً بشكواها ويأمربالتحقيق فيها على وجه السرعة. فتتشكك اللجنة القانونية في تصديقات الشهادةالعلمية، وتطلب منها تصديقات جديدة من فيينا. وخوفاً من انكشاف التزوير وما يصاحبذلك من فضيحة لها ولأسرتها، سافرت أمينة الى النمسا متخمة بالخوف، وبأعماقها غضبيفيض كراهية لبلدها.

هناك . . أسرعت الى موشيه يعاودها الحنين، غير عابئة بانكسار وطنهاالعربي بنكسة 1967، فكانت تعلن شماتتها بلا حرج أو خجل، إذ طفحت منها الكراهية لكلما هو عربي، ولكل ما يمت للعرب بصلة.

وبين نتف الجليد المتساقطة في ديسمبر، كانا يعبران معاً جسراً خشبياًقديماً في المدينة، عندما استوقفها موشيه فجأة قائلاً:



آمنة . . أتتزوجينني . . ؟

دون أن تفكر أجابت وهي تحضنه في عنف:
أوه موشيه الحبيب . . نحن زوجان يا عزيزي
.


أجابها بحسم ملاطفاً:
أريده زواجاً رسمياً في المعبد
.


وفي معبد شيمودت . . اعتنقت أمينة المفتى اليهودية ، وتزوجت من موشيهزواجاً محرماً شرعاً، واستبدلت اسمها بالاسم اليهودي الجديد "آني موشيه بيراد".